لماذا تخفق حكومات إسرائيل المتعاقبة، بالرغم من الوعود والتصريحات، في إيجاد حل شامل لأزمة السكن؟
على مدى ثلاثة عقود، ومنذ مطلع الألفيّة الثالثة خصوصا، تخضع سياسة الإسكان الإسرائيلية لعقيدة “السوق الحرة”، ما معناه نقل المسؤولية عن البناء السكني والإسكان من الحكومة إلى القطاع الخاص. بخلاف النهج السابق، لم تعُد حكومة إسرائيل تُدخِل يديها إلى جيوبها العميقة لتموّل مشاريع البناء في قطاع الإسكان، وبات التمويل والتنفيذ اليوم بيدَي “السوق الحر”. مع ذلك، فإن سوق السكن يشكّل اليوم مصدرَ دخلٍ هامًّا للدولة بمختلف أذرعتها.
لقد فاقمت هذه السياسة الفجوات التي كانت قائمة في الماضي على خلفيّة اتّساع الشريحة السكانية التي تجد صعوبة في الحصول على “شقّة لائقة بسعر معقول” وهي الرؤيا التي تزعم وزارة البناء والإسكان أنها تضعها نبراسًا لها. في المقابل، أدّت هذه السياسة إلى ظهور شريحة ميسورة ضيّقة نسبيًّا زادت مواردها على نحو كبير. مع اندلاع أزمة الائتمان المصرفي عامَ 2008، وجّهت هذه الشريحة موارد كبرى إلى سوق العقارات، ساهمت في ارتفاع أسعار السكن ودفعت إلى نشوء الظاهرة التي يَدْرج على تسميتها “فقاعة العقارات”.
يعاني سوق السكن “الحر” اليوم انقسامًا طبقيًّا بائنًا يمكن اعتباره سوقَ سكنٍ مجزَّأً – إذا استعرنا وصف العالِمة الاجتماعية عِدنَه بوناسيتش.
تحتلّ “أزمة السكن” منذ الحركة الاحتجاجية في صيف 2011 صدارة اهتمامات الجمهور. فقد شهدت السنوات الماضية تصاعدًا متواصلا في أسعار السكن، وفي الوقت نفسه هناك تراجعٌ ملموس في نسبة الشقق التي يسكنها مالكوها، لا سيما بين الشباب. أسعار السكن الباهظة تقف بوجه فرص الشباب في إسرائيل لاقتناء شقة سكن.
الحركة الاحتجاجية والنقاش العام ولّدا كلامًا من الحكومة عن العزم على حل “أزمة السكن”. إلا أن كل ذلك لم يُحْدِث تغييرا حقيقيًّا في السياسة ولم يبدّل، حتى اللحظة، نزعة الانخفاض في نسبة الشقق المسكونة بمالكيها، أو غلاء أسعار السكن أو اشتداد العبء الاقتصادي الذي يُنزله اقتناء شقة سكنيّة على السواد الأعظم من اقتصاديات البيوت في إسرائيل، لا سيما بين الأزواج الشابة. المشكلة التي دفعت مئات آلاف المحتّجين للخروج إلى الشوارع وولّدت وعودا من وزيرَين للمالية، يئير لپيد وموشيه كحلون، ظلّت حتى اليوم دون حلول حقيقية.
لماذا تخفق حكومات إسرائيل المتعاقبة، بالرغم من الوعود والتصريحات، في إيجاد حل شامل لأزمة السكن؟
نزعم في هذه الوثيقة بأن أحد الأسباب الرئيسية للوضع يكمن في الانقسام الطبقي الآخذ بالاتّساع في المجتمع الإسرائيلي، ما يؤول إلى نجاح شريحة ميسورة ضيّقة نسبيًّا في إملاء نهج يصبّ في صالحها. يشمل هذا النهج مختلف المحافل الحكومية ذات الصلة بسوق السكن – وزارة المالية، وزارة البناء والإسكان، بنك إسرائيل، مديرية أراضي إسرائيل والمجالس المحلية. تتردّد كل هذه الجهات في اتّخاذ تدابير من شأنها المسّ بثراء الجمهور الذي ينتسب إلى الشريحة الميسورة، بل وقد لا تفعل شيئًا يمكن أن يؤول إلى ذلك، باعتبار ذلك الثراءِ المحرّكَ الأساسي للاقتصاد الإسرائيلي بأسره: فادّخارات الجمهور المذكور تشكّل مصدر الاستثمارات في الأعمال، والضرائب التي يدفعها هي المصدر الأساسي لمدخولات الدولة. فضلا عن ذلك، تمارَس على الحكومة ضغوط من طرف المحافل شديدة الوطأة من القطاع الخاص – البنوك الكبيرة وشركات العقارات التي ترى في نشاط الشريحة الميسورة في سوق العقارات مصدرًا مباشرًا لزيادة أرباحها.
تلفت الوثيقة كذلك إلى أن السياسة الحكومية الراهنة ليست فقط لا تخدم عامة الناس، بل وتُلحق الضرر بالاقتصاد الإسرائيلي ككل، فالأموال التي كان يمكن استثمارها في نهج تنموي اقتصادي ينشِئ فرص عمل كثيرة ولائقة، يتم تحويلها للاستثمار في سوق السكن.
يبدو لنا إذن، بأنه طالما استمرت السياسة الحكومية تخضع لعقيدة “السوق الحرة”، سوف تواصل “قوى السوق” الفاعلة في سوق السكن إملاء النهج الذي يخدم مصالح الشريحة الميسورة عوضًا عن منحها الأولوية لاحتياجات غالبية السكان في إسرائيل. نظرًا لهذا الوضع، فإن الرؤيا الحكومية “شقة لائقة لكل أسرة بسعر معقول ومناسب” التي لا تزال وزارة البناء والإسكان تزعم لها، سوف تستمر وتبقى حبرا على ورق.
فيما يلي المعطيات الأساسية التي توردها الوثيقة لاحقًا بتوسّع:
الشريحة الميسورة في سوق السكن
- كانت الشقة المتوسطة التي تملكها العُشرية الأولى عامَ 2014 أغلى بحوالي 76% من قيمة الشقة المتوسطة التي يملكها سائر الجمهور (نحو 2.54 مليون ش – قيمة الشقة المتوسطة بملكية العشرية الأولى، مقابل قرابة 1.44 مليون ش قيمة الشقة المتوسطة بملكية العشريات 1 إلى 9).
- نسبة مالكي شقتَين أو أكثر بين الفئة الخمسية الأولى (العشريتَين 9 و-10)، التي بلغت عام 2008 زهاء 8.9%، ارتفعت حتى عام 2013 إلى 22.4%. بين الفئة الخمسية الرابعة (العشريتَين 7 و-8)، ارتفعت النسبة إلى 9.6%.
- بلغ عدد مالكي ثلاث شقق وأكثر في إسرائيل عامَ 2016 حوالي 54 ألف اقتصاديات بيوت، عِلْمًا بأن متوسط الدخل الشهري لتلك الاقتصاديات بلغ 46 ألف ش؛ في وقت بلغ متوسط الدخل الإجمالي لعموم اقتصاديات البيوت في إسرائيل (عامَ 2014) حوالي 18 ألف ش، فيما بلغ متوسط الدخل في تلك السنة قرابة 14 ألف ش.
- في الفترة الممتدّة بين 2002 و-2013 تمّ شراء حوالي 280 ألف شقة تعرّفها مديرية مدخولات الدولة التابعة لوزارة المالية كـ”شقق للاستثمار”. العائلات التي تنتمي إلى الفئة العشرية الأولى اشترت شققا بقيمة إجمالية تعادل نحو 40% من إجمالي قيمة شقق الاستثمار؛ علْمًا بأن الفئة المئوية الأولى وحدها اقتنت في الفترة المذكورة شققا بقيمة إجمالية تقارب 10% من مجمل قيمة شقق الاستثمار.
أزمة السكن
- انخفضت نسبة المساكن المملوكة لساكنيها بين أبناء الفئة العمرية 20-29 المتزوّجين من 55.8% عامَ 1997 إلى 43.3% في 2012، وانخفضت النسبة المذكورة بين أبناء الفئة العمري 30-39 من 74.3% عام 1997 إلى 63.4% عام 2012. فيما ارتفعت نسبة المساكن التي يسكنها أصحابها بين أبناء الفئة العمرية 50-59 المتزوجين من 86.1% عام 1997 إلى 87.8% عام 2012، وارتفعت النسبة أكثر من ذلك بين أبناء ال-60 فأكثر – من 78.9% إلى 86.7%.
- في الفترة بين 2003 و-2013 انخفضت نسبة المساكن التي يسكنها أصحابها بين الفئتَين العشريتَين المتوسطتين 4 و-7 ب-7.5% وب-6.1% على التوالي.
- بين عامَي 2007، عشيّة اندلاع الأزمة المالية و-2015، تضاعفت أسعار الشقق، فيما ارتفع متوسط الأجر حوالي 25% بينما لم يشهد الدخل المتوسط إلا ارتفاعا ضئيلا.
- يعاني مواطنو إسرائيل العرب مشكلات سكنية شديدة جدا: تتميّز المدن والقرى العربية، جراء فرص التطوير المحدودة وانعدام التنظيم والاستثمار الحكومي، بفقدان البنى التحتية أو ببنى تحتية متهالكة وباكتظاظٍ وسوءٍ في الأحوال المعيشية، علْمًا بأن التجمّعات السكانية العربية لا يتم إدراجها في برامج السكن القطرية.
نشاط أذرعة الدولة في سوق السكن
- موازنة وزارة البناء والإسكان، التي بلغت عام 2000 زهاء 9.84 مليار ش، انخفضت حتى عام 2015 إلى 1.89 مليار ش (بأسعار 2015). في عام 2015 شكّلت موزانة البناء والإسكان 0.5% من مجمل موازنة الدولة، ما يوازي تراجعا كبيرا عن النسبة لعام 1995 – 5.14%.
- جبت وزارة المالية عام 2014 ضرائب أراضٍ بقيمة إجمالية تعادل حوالي 7.7 مليار ش، ما مثّل زيادة حقيقية بنسبة 66% قياسًا بعام 2004. علاوة على الدخل الناتج عن ضرائب الأراضي المباشرة، يستفيد دخل الدولة كذلك من مدفوعات ضريبة القيمة المضافة عن الشقق الجديدة. وفقا لتقديرات بنك إسرائيل، بلغ مجموع ضريبة القيمة المضافة المُجباة عن الشقق الجديدة حوالي 7.6 مليار ش.
- في السنوات الأخيرة، ومنذ عام 2013 خاصة، ارتفع عدد الشقق التي بيعت بصفقات صادقت سلطة أراضي إسرائيل عليها بالغًا 30 ألف وحدة سكن سنويًّا. وقد حقّقت سلطة أراضي إسرائيل عام 2015 واردات بلغت أوجَها – حوالي 9.4 مليار ش.
- سياسة الفائدة المصرفية المنخفضة التي يعتمدها بنك إسرائيل تشكّل أحد العوامل الرئيسية لارتفاع أسعار السكن ونشوء فقاعة العقارات منذ عام 2008. تستند سياسة البنك هذه على الفرضية القائلة بأن من شأن الانخفاض الحاد في أسعار السكن خفض قيمة العقارات في السوق والتسبّب في تقليص النشاط الاقتصادي والاستهلاك، الأمر الذي يمكن أن يُلحِق الضرر بالاقتصاد.
المصارف الكبيرة وشركات العقارات
- قدّمت المصارف عام 2007 حوالي مليارَي شيكل قروضَ سكن شهرية؛ وقد ارتفع هذا المبلغ عام 2015 بأكثر من 2.5 مرة ليبلغ قرابة 5.4 مليار ش.
- واصل قطاع البناء والعقارات صدارته في كل ما يتعلّق بالائتمانات لقطاع الأعمال. مركَّب الائتمان للبناء والعقارات، من مجمل الائتمان المقدَّم لقطاع الأعمال، بلغ عامَ 2015 زهاء 29.3% – ما يشكّل أعلى معدل قياسًا بمجمل قطاعات الأعمال.
- في الفترة بين عام 2005 و-2015 تضاعف الربح الصافي الذي تجنيه البنوك من القروض والائتمانات المقدَّمة لقطاع البناء والعقارات حوالي 3 مرات. وقد بلغ الربح الصافي الذي جنته المصارف الخمسة الكبرى عام 2015 من القروض 926 مليون ش، وبلغ الربح من تقديم الائتمان لشركات البناء والعقارات قرابة 2.2 مليار شيكل.
- ارتفع متوسط الربح الإجمالي عن الاستثمار في المشاريع السكنية التي سوّقتها شركات العقارات الكبرى في إسرائيل من 16% عامَ 2007 إلى حوالي 19% عام 2015، بل وبلغ نحو 24%-25% عامَي 2011 و-2012. بالقيم المطلقة، بلغ الربح الإجمالي عام 2015 لشركات العقارات الكبرى حوالي 1.1 مليار ش، مقابل قرابة 600 مليون شيكل في عام 2007، أي أقل بالنصف تقريبا.
فقاعة العقارات والاقتصاد الإسرائيلي
- منذ مطلع سنوات الألفين وحتى اندلاع أزمة العقارات عام 2008، شكّل الاستثمار في بناء المساكن حوالي ربع إجمالي الاستثمارات في العقارات الثابتة. منذ 2008 يستقطب البناء السكني نسبة آخذة بالتصاعد من مجمل الاستثمارات في العقارات الثابتة بلغت عام 2015 زهاء 34%.
- في الفترة 2008-2013 ارتفع الناتج في قطاع البناء بنسبة 8% تقريبا، لكن مساهمته الإجمالية للنمو لم تبلغ سوى 0.3% لا غير. علاوة على ذلك، يبدو أن قطاع البناء لا يبشّر بالخير كذلك في مجال سوق العمل: فإذا نظرنا إلى مساهمته لصالح سوق عمل الإسرائيليين فقط، نجد أن الزيادة لم تبلغ سوى 3.1% مقابل زيادة بلغت 2.7% في معدل العمل العام.